صلاح نيوف
“إن كل طائفة في مجتمعاتنا تشكل أمة بذاتها ولا ينقصها سوى الأرض المستقلة، لكن الأكثر خطورة في التنظيم الطائفي للمجتمع هو الشك والريبة والجهل بالآخر وهي أشياء تحكم العلاقات بين الطوائف ونضيف عليها أحيانا المشاعر المبنية على الازدراء التي تشكل بدورها ما يمكن تسميته “العقدة الطائفية”.”
هل الخصائص التي تتصف بها طريقة التجمع السكاني في سوريا تأتي ضمن سياق سوسيو/ثقافي؟ هل هذا التجمع أتى عن طريق الصدفة؟ أم هي تجمعات سكانية تشكلت وفق عوامل إقليمية مختلفة أو متشابهة؟
نلاحظ التنوع والاختلافات في الحالة التاريخية لكل مكوِن من مكونات المجتمع السوري، حيث يوجد طوائف كبيرة وأخرى قليلة في عددها، وهذا ما ينطبق على الأقليات القومية أو العرقية أيضا. هناك تجمعات سكانية متجذرة في عادات وتقاليد المجتمع السوري، وهناك تجمعات مهاجرة وهي حديثة الاستقرار نسبيا في سوريا، لها عاداتها وتقاليدها المختلفة والتي هاجرت معها من مجتمعها الأصلي. ورغم النمو الديموغرافي السريع في سوريا، إلا أن هذا النمو لم يساعد في خلق نواة سكانية جديدة تختلف في العادات والتقاليد وطريقة التفكير عن التكوين الأصلي لهذا أو ذاك التجمع السكاني، طائفيا كان أم إثنيا.
تترافق قراءة التكوين التاريخي للسكان في سوريا مع صعوبات منهجية متعددة. فهل نشير “بسكان سوريا” إلى التجمعات السكانية التي عرفتها هذه الجغرافية وفق تواريخ محدد؟ فالجغرافية السورية قبل عام 1917، تختلف عما بعده، وكذلك عدد السكان وأصولهم وتجمعاتهم.
هنا تخضع دراسة الديمغرافية السورية إلى التغيرات الجيوبوليتيكية التي تعرضت لها سوريا منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى نهاية الربع الأول من القرن العشرين. بشكل آخر، يخضع التركيب السكاني لتغيرات الحدود الوطنية للدولة السورية الناشئة.
تطرح مسألة الحدود الوطنية، لوحدها، أسئلة جوهرية على قراءة التكوين الديمغرافي السوري: فهل السوريون هم سكان سوريا الطبيعية المتعارف عليها في المخيلة الشعبية عن سكان سوريا أي أن الشعب السوري هو أيضا الأردنيون، الفلسطينيون، اللبنانيون وسكان سوريا الحالية؟ وهل بعض المناطق الجنوبية والشرقية والشمالية الشرقية التي عرفت هجرات كبيرة وحديثة، نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، تشكل جزءً من الحالة السكانية السورية؟
تساعد الدراسات السكانية بشكل عام في معرفة تحركات السكان داخل إقليمهم وما هي الشروط التي تتحكم بهذه التحركات، علاقاتهم بالطبيعة والمناخ ونشاطاتهم الاقتصادية. ومن الملاحظ بداية أن الجماعات البشرية الموجودة الآن في سوريا والتي نطلق عليها اسم “الشعب السوري” ارتبطت لفترات طويلة من الزمن بالأرض التي وجدت عليها في بداية تجمعها حيث بدأت تتحدد بعض ملامح هويتها. فكل جماعة أصلية لها تاريخها الذي تريد فصله عنه الآخرين رغم العديد من التقاطعات اللغوية والثقافية المتعددة.

فيما يتعلق بالنشاط الاقتصادي والطبيعة والمناخ، نجد أن الجماعات السورية تتركز بشكل كبير وكثافة عالية في المنطقة الغربية من البلاد، تشير بعض الإحصائيات إلى أن 80% من عدد السكان يتركزون في المنطقة الغربية وذلك على مساحة لا تتجاوز من 30 إلى 35% من المساحة الكلية. بينما ما بين 40 إلى 45% من هذه المساحة هو عبارة عن بادية وصحراء شبه خالية من السكان.
نجد، في إحصائيات قديمة نسبيا، تعود للستينات والسبعينات من القرن الماضي أن اللاذقية وطرطوس تشكلان 2،3% من المساحة و11% من عدد السكان. حمص وحماة 5،9% من المساحة و17 % من عدد السكان، حلب وإدلب حوالي 12% من المساحة و27%من عدد السكان، دمشق السويداء درعا القنيطرة 12%من المساحة و29% من عدد السكان، الرقة الحسكة ودير الزور 23% من المساحة و16% من عدد السكان.
وفي كتاب لبارون “بواسلكونت”، وهو دبلوماسي فرنسي، يقول في هذا الكتاب المعنون ” سورية ومصر في عام 1833″، وقد نشر الكتاب المعهد الفرنسي لعلم الآثار الشرقية في عام 1927:” إن سوريا كانت واحدة من أكثر البلدان المأهولة حيث أن إنطاكية لوحدها كان يعيش فيها ست مائة ألف نسمة في العصر الروماني، وكان عدد سكان اللاذقية والسويداء مع بعضهما ثلاث مائة ألف نسمة”.
بالعودة إلى أصول معظم العائلات المدينية في سورية نجد دائما هجرات جديدة من المدن إلى المدن وليس من الأرياف إلى المدن، فالمجتمعان، المديني والزراعي، تعايشا لفترة طويلة من غير اختلاط. وفيما يتعلق بالأرياف السورية، فقد اتسمت بالفقر والبؤس والإبعاد شبه الكلي عن الحياة السياسية، كما أن سكان الأرياف كانوا بعيدين عن الكوارث التاريخية الكبيرة، حيث عرفت المدن تدميراً أو تخريبا أو مجازر ناتجة عن حروب وصراعات أكثر من مرة على مرّ التاريخ، بينما نادرا ما عرفت الأرياف هذا النوع من المجازر. إن غياب “الأحوال المدنية” والتعداد السكاني بشكل عام في سوريا قبل نهاية القرن التاسع عشر لا يسمح بمعرفة أكيدة لتركيبة الشعب السوري. مع ذلك نشير هنا إلى أن الدولة العثمانية ولأسباب تتعلق بالضريبة قامت بمحاولة التعداد السكاني منذ القرن السادس عشر في معظم أرجاء الإمبراطورية العثمانية. لكن لم نعرف تعدادا آخرا في القرون التالية، ومن هنا تأتي الصعوبة البالغة بالدراسة الاجتماعية للشعب السوري من زاوية تقسيمه: مدن/أرياف أو مدينيين/بدو.
ووفق العديد من الدراسات المعاصرة، فإن سكان المدن في القرن التاسع عشر شكّلوا من ربع إلى نصف عدد السكان الإجمالي. أما التجمعات السكانية الكبرى فكانت توجد داخل البلاد، فقد تم تقدير عدد سكان دمشق في عام 1830 ما بين مئة إلى 110 الف نسمة، أما حلب فحوالي ثمانين ألف نسمة بعد أن اصابها زلزال في عام 1830 وقد دمّر قسما كبيرا من المدينة. عرفت بلاد الشام ومنذ مطلع القرن التاسع عشر حركة هجرة مهمة للقبائل ورعاة الإبل والخراف، هجرة قادمة من شبه الجزيرة العربية بسبب الجفاف الذي عرفه ذلك الإقليم. في النصف الثاني من القرن الثامن عشر وتحت ضغط الحركة الوهابية، ظهرت قبائل قوية أخرى مهاجرة في سوريا أهمها قبيلة شمّر وقبيلة عنزة. الأولى استقرت في الجزيرة السورية شمال شرق البلاد، والثانية سيطرت على معظم سوريا الوسطى.

إذاً، وفي ظل غياب التجمعات العرقية المتجانسة في سوريا والتركيبة القائمة للمجتمع السوري يمكننا طرح السؤال التالي: ما هي الطريقة أو ما هو شكل التجمعات السكانية في سورية؟
في أوروبا مثلا، معظم الجماعات البشرية لديها إقليم أو أرض خاصة بها، والأرض تعني الوطن، هذا الأخير هو تعبير للاندماج بين الإنسان والأرض. ففي فرنسا مثلا، الفرنسي ليس من فرنسا فقط بل من الإقليم الذي يعيش فيه أو من هذه أو تلك القرية. على العكس في الشرق، فالشرقي لا تعنيه الحياة الجماعية كمصدر للمفهوم الجغرافي، بل يعنيه المفهوم الإثني والبيولوجي أكثر. ففي الشرق الأوسط، نحن لسنا من هذه أو تلك القرية بل نحن أبناء فلان أو فلان من الناس، لسنا مواطنين من هذا الوطن، بل منحدرين من هذه أو تلك العائلة.
نرى في الحضارة الغربية كنتاج للمدينة القديمة. القبيلة (النموذج الأول للتجمع السكاني) نراها في الصحراء، ولكن حتى الجبل له تنظيم قبلي وحتى في كبرى المدن والمجتمعات المدينية نلاحظ سلطة كبيرة لعقلية القبيلة ولا نستثني في ذلك الطبقة البرجوازية نفسها حيث من المهم الانتماء “لعائلة كبيرة”. في النتيجة الانتماء إلى شجرة العائلة والقبيلة في مجتمعاتنا يأخذ مكان الانتماء للأرض في المجتمعات الغربية.
النموذج أو الشكل الثاني للتجمعات البشرية في بلادنا ليس الميلاد أو الدم بل هناك مفهوم آخر: إنه الدين. فالمجتمع الديني يشكل الإطار الاجتماعي الحقيقي في هذه البلدان. الدين في الشرق الأوسط ليس فقط ممارسة روحية أو سلام داخلي للإنسان بل هو أيضا سلطة اجتماعية تحاول تنظيم الحياة اليومية. يعتبر الفصل بين القانون المدني والقانون الديني أمرا جديدا في مجتمعاتنا مقارنة بالمجتمعات الغربية، فالطوائف في الغرب ميدانها الجانب الروحي بينما التشكيلات السياسية هي التي تنظم وتدير المجتمع.
إن كل طائفة في مجتمعاتنا تشكل أمة بذاتها ولا ينقصها سوى الأرض المستقلة، لكن الأكثر خطورة في التنظيم الطائفي للمجتمع هو الشك والريبة والجهل بالآخر وهي أشياء تحكم العلاقات بين الطوائف ونضيف عليها أحيانا المشاعر المبنية على الازدراء التي تشكل بدورها ما يمكن تسميته “العقدة الطائفية”. وضمن هذا السياق، يتم طرح السؤال التالي: في الوقت الذي نجح فيه الغربيون بالتأسيس لمفهوم الدولة-،الأمة كنموذج متقدم لتجمعهم البشري، هل نجح أو سينجح السوريون ببناء فكرهم السياسي ودولتهم على أسس مشابه لا يشكل فيها الانتماء الديني والقبلي البعد الأكبر.