تاريخيا، سبقت العلمانية حتى عصر التنوير نفسه بتعبيراته الأوربية المختلفة. وُضِعَتْ المسودة الأولى للدولة العلمانية في “رود آيلاند” (أصغر ولاية في الولايات المتحدة) ، أسسها القس المعمداني روجر ويليامز (1604-1683). ووفقا له ، يجب احترام “حرية الضمير المطلقة للجميع” مسيحيين وغير مسيحيين وحتى مناهضيهم. وهذا يعني حرية العبادة ، وحرية اختيار الدين ، ووزراء الدين الذين لا يتقاضون رواتبهم من قبل الدولة.
يؤسس ويليامز مبدأ فصل الكنائس عن السلطة السياسية. ينص الميثاق ، الذي تم توقيعه عام 1638 ، على أن طاعة السلطات واجبة “في الأمور المدنية فقط”. وهكذا تم التنظير للدولة العلمانية وتجربتها في الممارسة في إطار لقاء الثقافات والأديان المختلفة.
تأسست مستوطنة رود آيلاند عام 1644 على يد اللاهوتي المعمداني “روجر ويليامز” ، كان منفيا من مستوطنة “خليج ماساتشوستس” بسبب آرائه الدينية. أسس أول بلدة في الولاية، “بروفيدنس” ، كمركز للحرية الدينية. كانت “رود آيلاند”، نظريا، في عام 1652 أول منطقة في أمريكا الشمالية تسن قانونًا لمنع الرق والعبودية.
إن اللغة الوحيدة التي تستخدم كلمة العلمانية بمعناها الأصلي هي الفرنسية وتعود جذورها إلى الإغريقية. العلمانية بمعناها الأصلي ليست موجودة في اللغات الأخرى (لا الألمانية ولا الإنكليزية مثلا) والمعنى المستخدم فيها مختلف.
العلمانية [laïcité ] و الدنيوية [ sécularisation]
إن التعبير عن هذين المصطلحين وفق التقاليد الفكرية و اللغوية تم بطرق مختلفة. في فرنسا يتم الحديث دائما في هذا المجال باستخدام مصطلح laïcité أي العلمانية، بينما نتحدث في العالم الأنكلو ـ سكسوني عن نفس الموضوع باستخدام مصطلح sécularisation/secularization.
في الواقع، إن استخدام المصطلحين لا يشير إلى وصف نفس الظاهرة.
العلمانية laïcité، تعود بشكل أساسي لمفهوم سياسي: الدولة “العلمانية” بالمعنى الواسع للمصطلح، والتي لا تعطي امتيازات لأية طائفة، ولا مفاهيم مفضلة للحياة، كما أنها تضمن حرية التعبير لكل أفرادها، مع بعض الحدود.
أما [ sécularisation]، سوف تبني عملية أو صيرورة متدرجة ونسبية من تراجع وتوافق أو ملائمة الديني مع المجتمع وذلك من خلال الديناميكية الاجتماعية نفسها . تشير أيضا إلى نزع القداسة عن حقل ضخم جدا من الفعّاليات داخل التنظيم الاجتماعي. هذا الشيء لا يُفهم نهائيا كمعطى طبيعي يتطلب الانتماء الأوتوماتيكي للقيم التي يتم بناءها، ولكن كنتاج للتاريخ وللسياسات الإنسانية. إذا يمكن أن تخضع للنقد العقلي والتحولات الإرادية.
نفس المصطلحات يمكن أن تعطي معنى آخر في بلد آخر، فتركيا مثلا هي علمانية بمعنى [ laïcité] و ينص الدستور على ذلك، بينما الدنيوية sécularisation بمعنى وجود أو ثقل الدين في المجتمع فهي تشغل مكانا متراجعا في هذا الشأن . (من كتابي “مقدمة في العلمانية”).
ما هي دولة العلمانية ؟ للعلمانية أيضا معنى آخر:
هي مذهب ومدرسة للتسامح. تُقْيِمُ وتُشَيِّدُ الاعتراف المتبادل لقيم الاعتقاد والإيمان عند الآخرين .إن المعتقدات المختلفة هي ليست نهائيا أدوات للسلطة أو للتبشير أو للدعاية ، بل تستطيع أن تكون محترمة بشكل متبادل من قبل الجميع. العلمانية تستطيع أن تكون عصرا من العدالة والسعادة الكاملة ، وتجسيدا للإنسان الكامل أو تشييدا للوحدة ، وحدة كل البشر غير المكرهين والمجبرين بالعقائد القهرية والسياسية ، هؤلاء بالإمكان أن يكونوا فرصة للتفكير والتبادل الخصب بين الأفراد المختلفين والجماعات المختلفة.
في حضرة العلمانية نحن نكون في حضرة التسامح الفعال والمنفتح والذي لا يعتبر تسامحا متعجرفا أو تنازلا ، ولكن احتراما وفائدة ومصلحة للآخر، احترام وفائدة مبنية على التبادل المطلق . وهذا يعني الرفض المشترك للتشريع السياسي الذي يستند فوق هذا أو ذاك المعتقد الديني الخاص. النزوع للعلمانية إذاً هو شيء في غاية الأهمية . إنه تثبيت وتأكيد للقواعد المشتركة ” غير الدينية ” للحوار ، للحياة ، و للإبداع والخلق السياسي. يفتح مجال الحديث والحوار ويستبعد حكم العنف وسيطرته.
لدى فرنسا قانون خاص بالعلمانية، قانون 1905، ولديها صرامة في تطبيقه بشكل أكثر أو أقل. وهي واحدة من دولتين في العالم ينص دستورها على أن الدولة علمانية. ونتحدث دائما باستخدام تعبير “العلمانية على الطريقة الفرنسية ” لما لها من خصوصية دستورية وقانونية وتاريخية. مع ذلك، الدولة في حالة تدريب مستمر على العلمانية في المجتمع المدني والتعليم بشكل خاص. وقد ذكرت أكثر من مرة على هذه الصفحة أنني قمت بتدريسها في الجامعة وكتبت عنها كتابا وأبحاثا وأصبحت مدربا لها، ولكن أبقى تلميذاً في رحاب فكر عميق وواسع ويتم تشويهه عندما نختزله بفصل الدين عن الدولة. لا بد من خلق بنية تحتية قوية و راسخة قبل البناء لاسيما في مجتمعات مثل مجتمعاتنا. رفع الشعارات يعني أنها ستبقى شعارات فقط.