الإقليم والهوية: بين الجغرافيا والسياسة
يُمكننا أيضا مقاربة العَلاقة بين الإقليم والهوية من خلال مناقشة إشكالية مفهوم الانتماء بالاستناد إلى الهوية والانتماءات المتعددة، حيث إن مفهومي الهوية والانتماء مكملان لبعضهما لأن الأول يحاول الإجابة على سؤال) من أنا؟ (، والثاني على سؤال) كيف ومع مَن أنا؟ (. تربط الهويةُ الفردَ بمجموعات عبر عملية من الحياة الاجتماعية وتكون مسألة الانتماء في هذه الحالة هي حول أشكال وطرق التبعية لهذه المجموعة أو تلك، ولكن الأكثر أهمية ليس الانتماءات المتعددة بل معنى الانتماء الذي يقيمه الفرد مع المكان والإقليم وما هي الارتباطات التي يكون سلوكه في داخلها ومن خلالها. مقاربة أخرى تساعدنا في فهم العَلاقة بين الإقليم والهوية تمكن صياغتها كالتالي: ماذا يعني “أن تكون من مكان ما؟”، أو بشكل آخر “ماذا يعني أن يكون أصلك من هذا المكان؟”، أو “ماذا يعني أن يكون لك جذور في هذا المكان؟”.
الحديث عن الهوية عبر الإقليم هو عودة لمناقشة مساهمة المكان أو الوسط الذي بُنِّيَ داخل الإقليم في تكوين الهوية الشخصية أو كما أشار فريدريك راتزل:” ينشأ الارتباط الروحي مع الأرض من خلال العادة الموروثة في التعايش”. إذن، يجب التمييز بين هوية كيان جغرافي والخاصية الجغرافية للهويات الفردية.
تتناول الجغرافيا العَلاقة بين الإقليم والهوية بشكل خاص على مستوى الأقاليم، ونادرًا ما يكون على مستوى الأفراد، لذلك نلاحظ أن مفهوم الهوية في الجغرافيا متضارب وأحيانًا فيه سوء بالاستخدام. يأتي التضارب وسوء الاستخدام من خلال المخاطرة بالإشارة إلى هوية الأقاليم وكأنها هوية الأفراد الذين يشكلونها وكأنهم يشكلون جماعة، ولأن تقسيم الفضاء الجغرافي قد يؤدي لأن يكون بلا هوية إذا لم تكن تعبرًا عن هوية جماعية.
إن بناء الهوية الجماعية انطلاقًا من الإقليم يفترض انتماء كل شخص إلى هذا الوعي بالفضاء الجغرافي المشترك. مع ذلك يبين “بارث”:” أنه وبوجود عدة مجموعات كل منها يمتلك هويته الخاصة، يمكنها أن تعيش في نفس الإقليم من غير أن يكون لها نفس العَلاقة بهذا الإقليم فيما يتعلق بالانتماء، المُلكِّية والمطالبات” 1، بينما يرى “دوباربيو”:” أنه يمكننا طرح سؤال هذه المواضيع الجغرافية من خلال الهوية الواعية بالذات” 2. كما يظهر، إن العَلاقة بين الإقليم والهوية إشكالية يتم تناولها من رؤى وزوايا مختلفة.
لكن يمكن القول: إن الهوية الإقليمية هي في الأصل شعور فردي محدد بفضاء جغرافي وقد تم استغلالها وتحويلها لأداة سياسية لتحقيق بناء الهوية المناطقية أو الوطنية لتصبح الإشكالية المتعلقة بالتراث هي البحث عن إعطاء مبررات ثقافية لهذه البناءات حتى تستمر. في نفس الوقت، وكما يشير “إيف غورموند”:” إذا كانت المبررات ديمقراطية يمكن وضعها في المقدمة كسورٍ يمكن للتعريف الإقليمي أن يُكَوّنه في مواجهة عولمة من الصراعات الإيديولوجية، وهذا دور لا يمكن للدولة الأمة الأوروبية أن تقوم به”3.

إذا، هناك رؤية تقول بوجود منهج جغرافي يساهم في تحويل الهوية إلى أداة، لقد استخدم) دي ميو وجون أغنيو (تعبير “الفخ الإقليمي” حيث تقع فيه الجغرافيا الذي لا يقدم إجابة واضحة على سؤال الهوية الإقليمية.
بمعنى آخر، إن تحليل التوسع في الفضاء الجغرافي للعديد من الظواهر الاجتماعية، ثم وضعها في عَلاقة بعناصر أخرى موجودة يقود إلى تسليط الضوء على الخصائص النوعية للعديد من الفضاءات الجغرافية، وهذا يمكنه أن يؤدي إلى زيادة حدة الطابع الهوياتي للفضاء الجغرافي، وإلى استغلال سياسي غير مشروع للعمل الجغرافي.
ومن هنا يرى “إيف غورموند” أنها مسألة تم تجنبها أو الهروب من مقاربة علمية صارمة لها وذلك من أجل البقاء في مجال من الشعور والانطباع الشخصي، وأن ترجمتها المؤسساتية والتنظيمية تعتمد فقط علاقات القوة السياسية، حيث ظلت الجغرافيا صامتة في الكثير من المناطق التي يجب طرح في هذه المشكلة) ساحل العاج، أوسيتيا، فلسطين، بلاد الباسك(. ) غورموند، المرجع السابق، ص 292 .)
يطرح “برنار دوباربيو” في بحث له حول مفهوم الهوية في الجغرافية مجموعة من الأسئلة الهامة حول الموضوع: عن ماذا يتحدث الجغرافيون عندما يتحدثون عن الهوية؟ في ماذا يفكرون كجغرافيين عندما يتحدثون عن الهوية؟ وفي جوابه يميز بين أربع استخدامات لمفهوم الهوية.
1(الهوية الرقمية: ولها جذور بعيدة جدا في تاريخ الفلسفة والمنطق التي ترى أن شيئًا ما يبقى نفسه بالرغم من التغيرات التي تصيبه، مثل إنسان يكون طفلا ويصبح شابا ثم كهلا ويبقى نفسه لا يتغير.
2(الهوية الاجتماعية: شكل من أشكال الهوية يعطيه الآخرون للأفراد أو لمجموعة من خلال تحديد موقهم في تصور للمجتمع.
3 (الهوية الشخصية: وهي إنتاجٌ لممارسة وعي الذات أو كما أفكر في وجودي.
4(الهوية الجماعية: التي تشير إلى الشعور والإدارة التي يقتسمها مجموعة أفراد من خلال الانتماء لنفس المجموعة 1. إن الشخصية الثقافية لإقليم ما هي مختلفة بالنسبة لآخر أي إن هذه الشخصية مُحَدَّدة ضمن فضاء جزئي يترك في الذاكرة آثارًا دائمة.
ولكن عندما نُغَيِّر المستوى فإن الروابط بين الأبعاد الشخصية والجماعية للهوية تصبح مختلطة. بالتالي يجب التمييز بين “هوية منطقة” والوعي الهوياتي المناطقي للأفراد، وبالنسبة للإقليم فإن عمليات تحديد الهوية هي مختلطة جدا أيضا وفي الحالتين) المنطقة والإقليم (هناك تعدد واختلاط. إن تحوُّل الهويات الإقليمية الواضحة والمنظمة إلى هوية جماعية هي عملية جيوسياسية تصل إلى مجموعة من الأقاليم المجردة.
هنا يوجد نوعان من الإقليمية: إقليمية تشكل الأساس “التحت“) عاطفية ومُعَاشة (، وإقليمية تشكل “الفوق” وهي مجردة بشكل أكبر) إيديولوجية وسياسية (. إن هذه الآلية في الدمج الاجتماعي تقوم بها كل البنى السياسية، وتهدف إلى جمع كمية كافية من الناس من خلال تحديد موقع المعتقدات الشخصية من الاعتقاد المشترك. ) غورموند، المرجع السابق، ص 293.
يمكن للهوية الإقليمية، وهي موضوع جغرافي وسياسي جوهري، أن تكون أمرًا له عواقب سيئة إذا تحولت إلى أمرين: الأول هو المغالاة بالروابط القائمة على الهوية الإقليمية التي تقود إلى الصراعات، والثاني إنكار الإقليمية كسمة من سمات الهوية. ) انظر “إيف غورموند”، مرجع سابق، ص 297.
من كتاب: الأفكار والنظريات الجيوسياسية من الفضاء الجغرافي إلى الفضاء السياسي. الدكتور صلاح نيوف